فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{ولوْ تقول عليْنا بعْض الأقاويل}
التقول الافتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع الجمع كأناعيم جمع أنعام وأبابيت جمع أبيات وفي (الكشاف) سمى الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول وتعقبه ابن المنير بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصه بالافتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله.
{لأخذْنا مِنْهُ} أي لأمسكناه وقوله تعالى: {باليمين} أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه: {ألمْ نشْرحْ لك صدْرك}.
{ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الوتين} أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار:
إذا بلغتني وحملت رحلي ** عرابة فأشرقي بدم الوتين

وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن ابن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه وقرأ ذكوان وابنه محمد {ولو يقول} [الحاقة: 44] مضارع قال وقرئ {ولو تقول} مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بعض أن كان قد قرئ مرفوعا وإن كان قد قرئ منصوبا فهو علينا.
{فما مِنكُم} أيها الناس {مّنْ أحدٍ عنْهُ} أي عن هذا الفعل وهو القتل {حاجزين} أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عنه لمن عاد عليه ضمير تقول والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجزين أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومن زائدة واحد اسمها ومنكم قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما وقال الحوفي وغيره: إن حاجزين نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] و{لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] فأحد مبتدأ والخبر منكم وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسلطه عليه.
{وإِنّهُ لتذْكِرةٌ لِلْمُتّقِين (48)}
{وإنّهُ} أي القرآن {لتذْكِرةٌ لّلْمُتّقِين} لأنهم المنتفعون به.
{وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنكُم مُّكذّبِين} فنجازيهم على تكذيبهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن.
{وإِنّهُ لحسْرةٌ على الْكافِرِين (50)}
{وإنّهُ} أي القرآن {لحسْرةٌ} عظيمة {على الكافرين} عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وأن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعاد الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى: {مكذبين} والأول أظهر.
{وإِنّهُ لحقُّ الْيقِينِ (51)} {وإنّهُ} أي القرآن {لحقُّ اليقين} أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في (الكشف) وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم.
{فسبّحْ باسم ربّك العظيم} أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحي إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن أردت والله تعالى الموفق. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ (44)}
هذه الجملة عطف على جملة {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [الحاقة: 3839] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومن جاء به وقال: إنه وحي من الله تعالى.
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخطابي.
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقرر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزلا من عندنا ومحمد ادعى أنه منزّل مِنا، لما أقررناه على ذلك، ولعجّلنا بإهلاكه.
فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن {لو} تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها.
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:
أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالا جامعا لإِبطال النوعين، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما علِمْتُم شاعرا ولا كاهنا يزعم أن كلامه من عند الله.
وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم {افتراه} [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوله على الله قال تعالى: {أم يقولون تقوله بلْ لا يؤمنون} [الطور: 33] فبين لهم أنه لو افترى على الله لما أقرّه على ذلك.
ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضا آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرأن لا يخالف دينهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءنا إيْتتِ بقرأنٍ غيرِ هذا أو بدِّلْه} [يونس: 15].
وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك.
والتقول: نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغة الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولا لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عُدي بـ (على).
والمعنى: لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولا لم نقله إلخ.
و{بعض} اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به ل {تقول}. و{الأقاويل}: جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضا من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلا من أقوالٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئا قليلا من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره.
ومعنى {لأخذنا منه باليمين} لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية.
واليمين: اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملا من الشِمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة.
وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم} في سورة البقرة (224) وقوله: {وعن أيمانهم وعن شمائلهم} في سورة الأعراف (17) وقوله: {ولا تخطُّه بيمينك} في سورة العنكبوت (48).
وقال أبو الغُول الطهوِي:
فدت نفسي وما ملكتْ يميني ** فوارس صدّقوا فيهم ظنوني

والمعنى: لأخذناه أخذا عاجلا فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتصرْ على نحو: لأهْلكناه.
و{منه} متعلق بـ (أخذنا) تعلق المفعول بعامله.
و(مِن) زائدة في الإِثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح.
وقد بينته عند قوله تعالى: {فأخرجنا منه خضِرا نُخرج منه حبا متراكبا ومن النخل} [الأنعام: 99]، فإن النخل معطوف على {خضِرا} بزيادة {مِن} ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإِعراب إلاّ بكلفة، وفائدة {من} الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول: نأخذ بعضه.
و{الوتين}: عِرق معلّق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له: نهرُ الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور.
فقطع الوتين من أحوال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يُفرض تقوله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها.
ولم أقف على أن العرب كانوا يكنّون عن الإِهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.
و{منه} صفة للوتين، أو متعلق بـ (قطعنا)، أي أزلناه منه.
وبين {منه} الأولى و{منه} الثانية محسِّن الجناس.
وأما موقع تفريع قوله: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقول من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاما لا يسوءهم، ففي تلك الحالة من أحوال التقول لو أخذنا منه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله: {وإن كادُوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذن لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنُ إليهم شيئا قليلا إذنْ لأذقناك ضِعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} [الإسراء: 73-75].
والخطاب في قوله: {منكم} للمشركين.
وإنما أخبر عن {أحد} وهو مفرد بـ {حاجزين} جمعا لأن {أحد} هنا وإن كان لفظه مفردا فهو في معنى الجمع لأن {أحد} إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلاّ في سياق النفي مثل عريب، وديّار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلاّ منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: {لا نُفرق بين أحد من رسله}
[البقرة: 285] وقال: {لسْتُنّ كأحدٍ من النساء} [الأحزاب: 32].
والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.
والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه.
والضمير عائد إلى {رسول كريم} [الحاقة: 40].
و{مِن} في قوله: {مِن أحد} مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم.
وذِكر {منكم} مع {عنه} تجنيس محرّف.
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحدا يدعي أن الله أوحى إليه كلاما يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.
فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قول أُوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليمن، ومُسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثْلهما من ادعوا النبوءة في الإِسلام مثل (بابك ومازيّار).
وقال الفخر: قيل: اليمين بمعنى القُوة والقدرة، والمعنى: لأخذنا منه اليمين، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة.
واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك: إِما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذٍ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالا لدعواه وهدْما لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب. اهـ.
فركّب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقول لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تبعه فيه من بعده فيما رأينا.
وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر.
{وإِنّهُ لتذْكِرةٌ لِلْمُتّقِين (48)}
عطف على {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40]، والضمير عائد إلى القرآن الذي تقدم ضميره في قوله: {إنه لقول رسول كريم} فلما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعانا في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البيّن بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء.
والتذكرة: اسم مصدر التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
والإِخبار بـ {وإنه لتذكرة} إخبار بالمصدر للمبالغة في الوصف.
والمعنى: أنه مذكِّر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكّر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذِكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى في سورة طه (3) {إلاّ تذكرة لمن يخشى} وقوله: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة [الحجر: 6].
والمراد بالمتقين المؤمنون فإنهم المتصفون بتقوى الله لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء دون المشركين.
فالقرآن كان هاديا إياهم للإيمان كما قال تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وكلما نزل منه شيء أو تلوا منه شيئا ذكرهم بما علموا لئلا تعتريهم غفلة أو نسيان فالقرآن تذكرة للمتقين في الماضي والحال والمستقبل، فإن الإِخبار عنه باسم المصدر يتحمل الأزمنة الثلاثة إذ المصدر لا إشعار له بوقت بخلاف الفعل وما أشبهه.
وإنما علق {للمتقين} بكونه (تذكرة) لأن المتقين هم الذين أدركوا مزيته.
{وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنْكُمْ مُكذِّبِين (49)}
هاتان جملتان مرتبطتان، وأولاهما تمهيد وتوطئة للثانية، وهي معترضة بين التي قبلها والتي بعدها، والثانية منهما معطوفة على جملة {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48]، فكان تقديم الجملة الأولى على الثانية اهتماما بتنبيه المكذبين إلى حالهم وكانت أيضا بمنزلة التتميم لِجملة {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48].
والمعنى: إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون له وبه، وعلمنا بذلك لم يصرفنا عن توجيه التذكير إليكم وإعادتِه عليكم {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّى عن بينة} [الأنفال: 42]، فقوبلت صفة القرآن التي تنفع المتقين بصفته التي تُضر بالكافرين على طريقة التضاد، فبين الجملتين المتعاطفتين مُحسّن الطباق.
والحسرة: الندم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها: التلهف، اشتقت من الحسْر وهو الكشف لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه ولا يزال يعاوده، فالقرآن حسرة على الكافرين أي سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة، فهو حسرة عليهم في الدنيا لأنه فضح تُرّهاتِهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لاسيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدّقوا به.
والمكذبون: هم الكافرون.
وإنما عدل عن الإتيان بضميرهم إلى الاسم الظاهر لأن الحسرة تعم المكذبين يومئذٍ والذين سيكفرون به من بعد.
{وإِنّهُ لحقُّ الْيقِينِ (51)}
عطف على {وإنه لحسرة على الكافرين} [الحاقة: 50] فيحتمل أن يكون الضمير عائدا على القرآن لأن هذه من صفات القرآن، ويحتمل أن يكون مرادا به المذكور وهو كون القرآن حسرة على الكافرين، أي إن ذلك حق لا محالة أي هو جالب لحسرتهم في الدنيا والآخرة.
وإضافة حق إلى يقين يجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إِنه لليقينُ الحق الموصوف بأنه يقين لا يشك في كونه حقا إلاّ من غشي على بصيرته وهذا أولى من جعل الإِضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لليقين الحق، أي الذي لا تعتريه شبهة.
واعلم أن {حق اليقين}، و{عين اليقين}، و{علم اليقين}، وقعت في القرآن.
فـ: {حق اليقين} وقع في هذه السورة وفي آخر سورة الواقعة، و{علم اليقين} و{عين اليقين} وقعتا في سورة التكاثر، وهذه الثلاثة إضافتها من إضافة الصفة إلى الموصوف أو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما ذكرنا.
ومعنى كل مركب منها هو محصل ما تدل عليه كلمتاه وإضافةُ إحداهما إلى الأخرى.
وقد اصطلح العلماء على جعل كلمة {عِلم اليقين} اسما اصطلاحيا لما أعطاه الدليل بتصوّر الأمور على ما هي عليه حسب كلام السيد الجرجاني في كتاب (التعريفات)، ووقع في كلام أبي البقاء في (الكليات) ما يدل على أن بعض هذه المركبات نقلت في بعض الاصطلاحات العلمية فصارت ألقابا لمعان، وقال: علم اليقين لأصحاب البرهان، وعين اليقين وحق اليقين أيضا لأصحاب الكشف والعيان كالأنبياء والأولياء على حسب تفاوتهم في المراتب، قال: وقد حقق المحققون من الحكماء بأن بعد المراتب الأربع للنفس (يعني مراتب تحصيل العلم للنفس المذكورة في المنطق الأوليات، والمشاهدات الباطنية، والتجريبات، والمتواترات) مرتبتين: إحداهما مرتبة عين اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تشاهد المعقولات في المعارف التي تفيضها النفس كما هي، والثانية مرتبة حق اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تتصل بالمعقولات اتصالا عقليا وتلاقي ذاتها تلاقيا روحانيا.
واصطلح علماء التصوف على جعل كل مركب من هذه الثلاثة لقبا لمعنى من الانكشاف العقلي وجرت في كتاب (الفتوحات المكية) للشيخ محيي الدين بن عربي.
{فسبِّحْ بِاسْمِ ربِّك الْعظِيمِ (52)}
تفريع على جميع ما تقدم من وصف القرآن وتنزيهه على المطاعن وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المشركون، وعلى ما أيده الله به من ضرب المثل للمكذبين به بالأمم التي كذبت الرسل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكرا له على ما أنعم به عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه.
واسم الله هو العلم الدال على الذات.
والباء للمصاحبة، أي سبح الله تسبيحا بالقول لأنه يجمع اعتقاد التنزيه والإقرار به وإشاعته.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص بالاعتقاد والعبادةِ والقول، فتعين أن يجري في التسبيح القولي اسم المنزِّه فلذلك قال: {فسبح باسم ربك} ولم يقل فسبح ربّك العظيم.
وقد تقدم في الكلام على البسملة وجه إقحام اسم في قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1].
وتسبيح المُنعم بالاعتقاد والقول وهما مستطاع شكر الشاكرين إذ لا يُبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك، قال ابن عطية: وفي ضمن ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته وإبلاغها.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية «اجعلوها في ركوعكم» واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك التزام ذلك لئلا يعد واجبا فرضا اهـ.
وتقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الواقعة. اهـ.